ماذا فعلوا و كيف وصولوا ؟؟ كيف كان للأندلس وقع الصدى في آذان النابشين عن أمجاد ما مضى و التغني بها و إكمال موجات الصدى في آذان الآخرين و إزهاق أرواحهم ب"كان و أخواتها"؟؟ و كيف باتوا هم أصحاب أمجاد اليوم و الحاضر مُستفيدين مما (كان) في الأندلس ؟؟
لم يكونوا أهل علم و أهل معرفة و أهل اكتشاف كما كان العرب قديما .. فما كان منهم ابن سينا و لا الفارابي و لا ابن خلدون و لا حتى ابن بطوطة .. كانوا مُنغمسين في التوسع و الحروب و نشر محاكم التفتيش من اجل إنزال أقسى أنواع العقاب على من يُخالف نهج الكنيسة كالعلماء و الفلاسفة و المُفكرين .. لربما كانت الأندلس رغم إضرارها بهم من خلال اختراق الدين الإسلامي لأوربا .. بمثابة المنفعة حيث انتقل العلم و ازدهر و كان في أوجه في تلك القرون التي عاشها المُسلمون في اسبانيا ..
و لكن ماذا حدث يا تُرى .. و مالذي تغير ؟؟ من تأثر بمن ؟؟ و من خرج بأكثر المكاسب ؟؟ و من خرج بخفي حنين ؟؟
بعد تلك المُقدمة التاريخية ( الفلسفية ) سأدخل في صلب الموضوع :
الإختلاف سنة من سنن الحياة .. لم يُخلق الإنسان ليكون مُتشابها مع أقرانه من البشر في كل شئ .. و لو نظرنا إلى موضوع الإختلاف من جميع زواياه فسنرى بأن جميع الأسوياء من البشر يُقرون بوجوده و بكونه عنصر رئيسي في حياة الإنسان .. و لهذا على الإنسان أيا كان التكيف مع وجوده ..
بعيدا عن التاريخ و نزولا للحاضر .. لو نظرنا من بعيد .. فسنجد بأن أحد أسباب ازدهار تلك الدول الأوربية و الغربية بشكل عام هو القدرة على استثمار الإختلاف و تحويله إلى ما يُفيد و إلى ما يُساعد على التطوير ..
فبعد أن كانت تلك الدول دول قامعة و مُتحجرة و رجعية و مُتخلفة .. أصبحت دُول تتبنى الرأي و الرأي الآخر كحتم لابد من التعايش معه .. فالمُختلفين في التوجهات السياسية يعيشون في بيت واحد .. و المُختلفين في التوجهات الدينية ( أحيانا ) يعيشون في بيت واحد .. و المُختلفين في التوجه الإجتماعي يعيشون في بيت واحد .. حتى الشاذين (اجلكم الله) و الأسوياء يعيشون في بيت واحد .. لماذا و كيف ؟؟
لأن مُجتمعاتهم تقوم على كفل حقوق الجميع مهما اختلفت .. هل يُوجد مُتطرفون يمينيون ؟؟ نعم يُوجد هؤلاء المُتطرفون في كل الدول و لكن الحكومة تكفل لهم حقوقهم في إطار القانون وفق احترام الأغلبية في حال كانوا أقلية و هذا ينطبق على العكس تماما ..
هكذا نشأو وتعلموا بعد القرون المُغبرة و السوداء التي عاشوها تحت رحمة الكنيسة و أفكارها ..
عندما ناتي إلى الدولة الإسلامية .. لم تكن هنالك دولة فقط .. فلقد مرت الدولة الإسلامية بعدة مُسميات و توجهات .. فبعد الإسلامية كانت الأموية و بعدها العباسية و من بعدها الفاطمية و الأندلس و من ثم العثمانية .. و بين هذه وتلك هنالك دول أخرى نهضت لفترة و من ثم سقطت ..
لو نظرنا إلى النهوض .. فالنهوض يكون بعد اجتماع الناس حول القضية رغم اختلافهم .. و لا يكون السقوط إلى بالنظر للإختلاف و ترك القضية .. فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم .. لم يترك لهم إلا دولة قوية قائمة على أساس متين .. و لم تنتهي إلا بسبب الإختلاف اللذي لم يُرتجم إلى ما يكمل هذه الدولة كما كانت .. فبدأت الدولة الأموية بإلتفاف كثيرين حولها ( بغض النظر عن الكيفية ) نهضت و استمرت .. و انتهت بعد وجود الإختلاف اللذي دائما ما يُرتجم إلى انشقاق .. ظهرت العباسية التي عاد الناس و اجتعوا حولها لتنهض .. و سقطت أيضا بسبب الإختلاف .. لو وصلنا للأندلس و التي كانت مُتماسكة لقرون حيث ازدهر المُجتمع الإسلامي بعلومه و أفكاره و تعاليمه في ذلك الوقت ( رغم وجود المُختلفين ) إلا أنها سقطت بعد أن تُرجم الإختلاف إلى لغة صعبة الحل و سقطت .. و العجيب في الأمر أن الخلاف المُترجم عن الإختلاف كان في وسط تردد بعض الدول الأوربية المُجامورة على الدولة الأندلسية من أجل إسقاطها .. لو راجعنا التاريخ فسنرى ذلك جليا في كل الدول الإسلامية في ذلك الوقت تقريبا .. مثلها مثل الدولة العثمانية .. حتى في دولة المماليك .. و في أوج صراعهم مع التتار .. كانت هنالك جبهة داخلية ترجهما الإختلاف إلى فتنة ..
هل هي وراثة يا تُرى ؟؟ أم أن العرب أُصيبوا بلعنة ما ؟؟
عندما يختلف اثنان في الدول الغربية .. تُستثمر أفكار الإثنين معا .. و عندما يختلف اثنان في دولة عربية .. من المُستحيل أن يكون كليهما على قيد الحياة .. سائرين على قانون (أنا و من بعدي الطوفان) !!!
لو نظرنا إلى مُجتمعنا (المُقدس) سنجد بأنه أُحادي التوجه (محكمة تفتيش) بصبغة عربية .. و مضمون كنائسي باباوي كاثوليكي .. فكل مُخالف لهذا المُجتمع سيمر عبر بوابة محكمة التفتيش لتقتص منه .. فإما أن يشفع له البابا و إما أن يكون كمن هو في خبر كان ..
عجيب جدا .. كيف اصبحنا الغرب في أفكارهم أيام الجاهلية و كيف أصبح الغرب نحن في أفكارنا بعد الجاهلية !!!!
كنت في نقاش مع أحدهم حول نقطة مُهمة حول هذا الموضوع :
كنا نتساءل .. هل الدين سبب في تحول المُجتمعات إلى مُجتمعات ذات توجه واحد قمعي .. أم أن الدين بريئ مما يفعل الظالمون ؟؟
لو كان الأمر يقتصر على كتاب المُحرف ( الإنجيل ) لكان الأمر كذلك بدون أدنى شك .. و لكن القضية تطال الدين الإسلامي المُحفوظ من أي تحريف .. إذا أين المُشكلة ؟؟
بعد نقاش طويل وصلنا إلى أن المُشكلة موجودة في بعض أتباع الدين و ليس في الدين نفسه .. بعض أتباع أي دين يتوجهون بشكل غريب إلى تسيس توجههم الديني للخوض في مصالح مُعينة تستدعيهم إلى التطرف و مُحاولة السيطرة بإسم الدين .. و عندنا يعودون للدين لا يجدون ما يخدم توجهاتهم و لهذا يعمدون إلى استخدام الدين من اجل تمرير بعض المصالح بإسم الدين و من ثم طرحها على المُجتمع .. فمن يُخالفها حينها سيكون تعدى الخط الأحمر و يُعتبر مُخالف للدين .. و هذا ما فعلته الكنيسة بالضبط ..
لكن ماذا فعل مُجتمعنا يا تُرى ؟؟ أتفهم في الحقيقة ماذا يعني أن تكون مُسلما .. فأنا مُسلم .. أرى ديني دين الحق و أسير على نهج الآية الكريمة (( إن الدين عند الله الإسلام )) .. ( ليس بالمُسمى و لكن بالمنهج فأي مُسمى آخر لأي دين يتوافق مع المنهج الإسلامي الحق الخالي من الشوائب البشرية هو الإسلام نفسه ) .. و من الطبيعي أن أطمح أن يكون مُجتمعي مُحافظا على المنهج الإسلامي ( الحق الخالي من الشوائب البشرية ) .. لكن (كل شئ يزيد عن حده ينقلب ضده ) .. بتخمين أنه حرص زائد عن حده .. حرصي على أن يكون مُجتمعي مُحافظا على الدين لا يعني أن أجعل الناس ينفرون منه .. بل يقتربون منه و يحرصون على ان يكونوا جزأ منه .. حرصي على مُجتمعي لا يعني أن أقوم باستمالة عواطف الناس بأفكار خرافية أو كذبات و دموع صناعية .. حرصي لا يعني أن أمرر ما أراه مُناسبا في مقابل الدين (أي ما يراه الله سبحانه و تعالى مُناسبا لخلقه) .. حرصي لا يعني أن أقمع الناس و أُجبرهم بالعصى على اتباع الدين ..
لو عدنا لمسألة الإختلاف الآن و مدى علاقتها بوجود التخبط المُجتمعي .. سنرى بأن الناس اختلفوا ( و هذا أمر طبيعي جدا ) و لكنهم لم يستثمروا الإختلاف لخلق جو من التعددية تحت الغطاء الديني و لكنهم جعلوا القضية إما أن يكون المُجتمع أنا أو ليذهب الناس إلى الجحيم .. فأصبح هنالك انشقاق و تجمعات حول كل صدع .. و صراع حول الأفكار المُختلف فيها .. بينما الناس لشدة ذكائهم نسوا بأن جميع أفكارهم تصب في قالب واحد هم يتفقون عليه و هو الأساس لنهوضهم !!!
ما يجعل الغرب مُتقدما هو استثمارهم للإختلاف و جعله وسيلة لتطورهم و تقدمهم و أن لا يكون الإختلاف سببا في تراجعهم .. بينما نحن في مُجتمعنا مثلا نُوقف القطار عند كل محطة تقدم من اجل التناحر على المُختلف فيه .. فلو نظر عاقل إلى الزمن الماضي اللذي عاش فيه .. فسيرى حياته لا تنفك تمر على صراع حول الإختلاف .. و لهذا لم نتقدم يوما خطوة واحدة .. فكل جهودنا تذهب نحوا الصراع و ترجمة الإختلاف إلى حروب ..
خاتمة :
لم يكن ليمر عالم أو مُفكر أو فيلسوف مرور الكرام على محاكم التفتيش في قرون التخلف و الظلام الأوربية .. فحتى كروية الأرض التي لا زالت محط جدل حتى قبل سنوات ليست بالبعيدة .. كان من اكثر قضايا محاكم التفتيش شهرة .. في محاكم التفتيش هنالك من تخلى عن أفكاره و علمه و فلسفاته خوفا على حياته و حياة من معه .. و منهم من ضرب بمحكمة التفتيش عرض الحائط و راح ضحية لحفاظه على كرامته و علمه و فلسفته و ما افنى حياته من اجله ( أي ما يراه حقا يجب اتباعه ) ..
لم تكن محاكم التفتيش نتاجا سماويا بل كانت نتيجة لعبث يد البشر و أفكارهم في كل سماوي نزل .. و لهذا لا يُوجد هنالك خط أحمر غير أسوار الدين و ليس من حق البشر أن يضعوا أسوارهم كما يروها داخل سور الدين و يُساوا تجاوزها بتجاوز الدين ..
فإما أن نكون كمن باعوا الحق عند مثولهم امام قضاة محكمة التفتيش و أن نُقوقع أنفسنا داخل الفكر العربي اللذي لم يعرف على مر العصور أن يستثمر مسألة الإختلاف لصالحه يوما حتى يومنا هذا أو أن نضرب الأرض بأرجلنا كجاليليو و نقول كما كلمته المشهورة "و لكن الأرض تدور" .. لنضرب هذا الفكر المريض بعرض الحائط ..
تحياتي