عائشة فوق جسر الموت
ممر مشفى البربير طويل. مرآتان متقابلتان، مثبتتان على الجدارين النظيفين. تركن غرفة عائشة في نهاية الممر. فيها سرير واحد وطاولة، وثلاثة كراسي مدهونة باللون الأبيض. ستارتان شفافتان، وخزانة صغيرة بجانب السرير. لملمت عائشة نفسها. جلست. شعرت بقوة تدفعها للنهوض. ترتدي ثوباً طويلاً رقيقاً، يظهر القسم الأعلى من ثدييها. ذراعان عاجيان، كرخامتين مصقولتين. ساقان منسقتان مغريتان. وقفتْ. مشتْ. تدرّجتْ في الممر. حدّقت إلى المرآة. حُوصرت بين مرآتين وجدارين. البلاط الذي تقف عليه يلمع، كماسة مصقولة. صورتان واحدة للواجهة الأمامية والثانية للواجهة الخلفية. الشاش الأبيض يلفّ جسمها. رأسها معصوب. بقايا دماء جامدة، متيبّسة. تحسستْ فخذيها ويديها وبطنها وظهرها. اقتربت من المرآة أكثر. أضاءت شمعتين تقفان كشاهدين على زاويتي المرآة من الأعلى، مثبتتين على صحنين صغيرين مجوّفين. مسّدت بإصبعيها حاجبيها. كل شيء كما هو وعلى وضعه السابق، سوى أن الشكّ تموّج في داخلها على شكل أسئلة باردة وحيرة. عادت إلى غرفتها. تسندها ممرضة. ألقت جسدها فوق السرير وطلبت من الممرضة أن ترفع القسم الأعلى من السرير، ففعلت، وارتفع معه القسم الأعلى من جسمها. وكررت طلباً ثانيا بنقلها إلى الطابق الأول بعد أن اطمأنت على توقف القتال واستمرار وقف إطلاق النار. لم تسمع منذ أيام أصوات قذائف. أصوات أخرى لمصابين بجروح. أنين ينزّ ويندفع متخثراً كدمائها في الغرف المجاورة لغرفتها.. وجثث محمولة على نقّالات إلى غرفة "عزرائيل" أو تخرج منها، وتنقل إلى سيارات إسعاف. لكنها لم تعرف المكان الذي تنقل إليه " هل إلى المقابر أم إلى المشرحة؟" همسات تحثّ خطواتها متسربلة في عروقها وأوردتها:" تحولت حبيبتي بيروت إلى مدافن. ازدحمت المقابر بالأموات. قلبك يابيروت حفرة تتسع لألوف الناس. تتسع للأموات والأحياء المختبئين والصامتين والهاربين والجائعين" البحر هائج. تُصغي عائشة إلى ارتطام الأمواج بالصخور. " تمنّت لو أنها تقف على صخرة من صخوره. تترك بصرها يسبح مع الجثث الطافية على سطحه، وبقايا ثياب ممزقة. وفوارغ قذائف، وأخشاب ورؤوس أطفال ونساء، وبذلات عرائس بيضاء. ورود ذابلة، وأحلام معصورة أو مطحونة من القهر والجوع والعري واليتم. أحلام سوداء، عرجاء، عوراء، وقرود تبكي من الجوع". ممرضتان تتساعدان في وضعها على نقالة. تلتصق النقّالة بالسرير. تستلقي على جنبها، يحملها مصعد عاد إلى العمل بعد إصلاح محرك الكهرباء. هواء لطيف يندفع من مدخلي الممر المواجهين لبعضهما. تنتعش قليلاً. يتحسّن وضعها. طموحات تدور وتتحرك في رأسها وأمام مقلتيها. أمنيات تعود مشدودة بأحزمة مطاطية كي لا تهرب. تبحث وتفتش عن جسدها الضائع وعن جسر الموت. اُمنيتها أن تقف ولو مرة واحدة فوق هذا الجسر، لأن بقايا دماء نازفة تركتها هناك. جراحها هناك. وقُبلاتها هناك... لم يحن الوقت بعد لمغادرة المشفى. الجراح طريّة، واللحم مهترئ والشعر دبق تكسرّت فيه أمشاط من العظم والمعدن. مَنْ يشفق عليها ويخطفها، مَنْ يوقع على أوراقها ويطلق الحرية لها. تريد أن تترك المشفى للآخرين. لم تَعُد بحاجة إلى الأدوية والمعالجة. ستبحث عن ساحرة، مشعوذة تبخّر لها. كرهت روائح الموت والأموات والأدوية والعطورات والمناظر المؤلمة وغرف العمليات والإسعافات، والألوان الرمادية والزرقاء. شاشة واحدة بيضاء تساوي آلاف الجراحات وآلاف القذائف. صورة تُؤخذ لها، تلتقط كل تفاصيل جسمها أفضل من الكرة الأرضية. صورة للذكرى ستحنّطها في قلبها، سترفعها في تظاهرة كشاهد على مايجري في عاصمة السواحل. ستقول للعالم : هذا أنا! عائشة المؤجرة بنت الجبل رهينة. كفى تدنسونني وتدوسون بأحذيتكم الثقيلة على روحي. كفى أيها الطامحون إلى المحبة، كفى أيها السارقون ذبالة جسدي. كفى أيها الحقير، ابن المعلم، كفاك تمزيقاً وتفتيتاً ورعونة. ألقوا ألغامكم وقذائفكم في البحر. كفى دموعاً على بيروت. فالتماسيح تبكي. دموعكم كدموعها، مالحة لزجةمميتة. اليوم صممت عائشة أن تخرج لتحطّم المشاهد اليومية المؤلمة، وأن تنزع من قلبها زخات الأوجاع وغصّاتها، أن تبحث عن أحّبتها " حيّان - أبو سركيس - أم سركيس- الورود والأزهار - وعن القطتين" تعثرت أفكارها وتصوراتها وأحلامها وهي تمرّ في درب تأملاتها بأبي شاهين يدخل مرتدياً ثوباً قذراً، يحمل رائحة أنوثتها. انسلّت. . خرجت. . سرقت خطواتها في الهدوء، قبيل طلوع الشمس ورؤية الغيوم والسماء والضباب. مشت نحو خط التماس مسافة طويلة تركت فوق سريرها ورقة وجملة واحدة بخط كبير" سأعود مساء لا تقلقوا"!! الشوارع تغصّ بالناس وألوان ثيابهم والسيارات، تزدحم الأسواق بالسلع والخضراوات. كلما قطعت عدة أمتار تتوقف بجانب حائط، تسند ظهرها إليه، تتكئ على عكازاتها. تضع يدها فوق مقدمة سيارة واقفة على قارعة الطريق، تتفحص الأشياء تُعد الطلقات والكوى المفتوحة في الأبنية والسيارات المعطوبة. تحملق إلى الأطفال والصبايا والشباب، والنساء اللواتي يحملن أكياس المؤونة والخبز وصفائح المياه" وبيدونات " الكاز والبنزين. أرتال بشرية طويلة وتطول. تبدأ من أول الشارع حتى بوابة المعبر. تتوضع على جانبي خط التماس الستور الترابية وأكياس الرمل ومساند الحماية. وصلت إلى خط التماس تلوك أوجاعها بصبر. وقفت في أعلى كومة. ساعدها بعض العناصر المسلّحة حتى وصلت إلى قمة التلة. وجدت كرسيّاً صغيراً. جلست فوقه، مُتهالكة. تنفست وارتاحت قليلاً بعد هذا المشوار. أخذت تتحسر، لكنها لم تبكِ في تلك اللحظة. لأن الوقت الآن ليس للبكاء والندب. الوقت الآن لرسم صورة شاملة تُعيد إلى قلبها الأمكنة الجميلة، وشاطئ البحر الذي تركت فيه حُلماً وُلد صغيراً، وكان آخر الأحلام الدافئة. أطلقت رشات من الكلمات، وجملاً تعتصر مرارة. كأنها تُلقي خطاباً أو بياناً مُخاطبة نفسها" بيروت تصرخ من الجانبين. محراث الموت شقَّ أثلاماً في جسدها. يرصد الموت الشواطئ. تمتلئ الموانئ بالأسلحة والمخدرات. أفاع تطوقها، وتحمل البواخر المغادرة ميناءها، أبناءها، تنقلهم إلى شاطئ عالم آخر أكثر أمناً وسلامة. تسبح في بحرها طرّادات قادمة من الجنوب والشمال. تحتضن صخورها زبداً ملوثاً" ثم حملت منظارها، ربطته إلى رأسها ربطاً جيداً، ووقفت فوق التلة تخيط في هذا الصباح ثوباً لجسدها. أرادت أن تلملم وتجمع نتف اللحم المختلط بالتراب وأن تحفر درباً جديداً لكنها نزلت حين رأت أدخنة تتصاعد من الأبنية. سمعت أصوات طلقات نارية وانفجارات. كانت تنقل قدميها ببطء. تغزر عكازاتها أمامها خوفاً من لغم ينفجر، يسحقها وينثر عظامها ولحمها، يقطعها إلى نتفٍ. سارت في محاذاة خط التماس. رافقت جميع الدُشم. سلّمت على جميع الناس الذين صادفتهم في طريقها. لم تكترث وتهتم بمهازل المسلّحين ونكاتهم المريرة. هزأت من تهديداتهم وتوعداتهم، لأنها تدرّبت على القتال ومواجهة المصاعب وأتقنت فنّ المواجهة. تقترب شيئاً فشيئاً من بوابة المتحف. قالت لأحد الحراس الذي طلب منها إظهار بطاقتها الشخصية: ممزقة كجسدي. معطوبة. ضيعتها منذ زمن. أنتم المسئولون عن ضياع هويتي وطمس ملامحي وإهلاكي وتشردي وسحقي. أسلحتكم هي التي أفرغت قذائفها في جسدي، وأشعلتم النيران فيه، فذاب لحمي وتحطّمت عظامي.وقذارتكم لطّخت ثيابي ولوثتها بالدنس... هُمْ. .هم. . هؤلاء الذين لا أعرف أين يكونون الآن. . هؤلاء. . حيّان ومحمود و" قا.ك" والعشرات والمئات الذين أتوا من أماكن بعيدة وأنقذوني. . أنا طلبت منهم ذلك. ولولاهم لم أكن حيّة إلى هذا التاريخ. اتركني في سبيلي، تائهة، وما شأنك ببطاقتي الشخصية. أنت تعرفني وأعرفك منذ آلاف السنن، تأكل وتشرب وتجوب جسدي طولاً وعرضاً، والآن تتنكر للجميل! ها أنذا أقترب من جسر الموت، سأقف فوقه وأفك رباطات رأسي وخصري وأرفع الشاش الأبيض لماذا توجه إليّ السلاح؟ لماذا تصوّبه إلى رأسي؟ ألا يكفيني تمزّقاً وتشتتاً وجوعاً وحرباً!!.. تابعت تتمايل وتترنح. تضغط على عكازاتها حتى وصلت إلى الجسر، ولم تزعجها المناظر والصور لأنها ستعيد المحبة إليها وترممها كي تحيا من جديد صورة الجسر هي هي لم تتغير. وجهت منظارها إلى سن الفيل، عبر الطريق الصاعدة. هبط بصرها مع الطبيعة وبين الأبنية والممرات الضيّقة. خلعت المنظار. سبح تفكيرها وتموّج في فراغ نهر بيروت الجاف. لم تقدر أن تلمس جوانبه الأسمنتية الناعمة. تجاوزت العقبات والصعوبات، وحيدة في تلك الظهيرة. نسيت أباها الذي باعها كخادمة. أجرّها بمبلغ زهيد من المال يدفعه " المعلم" كل سنة إليه. ومنذ سنوات وقبل حرب السنتين لم تره ولم تسمع أخباره وأخبار أُمّها وأهلها وأقاربها لكنها وجدت في حيّان الذي يحمل رائحة الوطن وأهزوجه الأرض ملاذاً تحتمي به. قلت : أنت ياحيّان هادئ على غير عادتك: أين منظارك. ابحث في جوفه عن آثار خلدت إلى روحك وأنعشتك في فترة ما. الزمن يتحرك وأنت لم تخطُ خطوة واحدة نحو المستقبل. كأنني أرى في ملامح وجهك أساطير وتاريخاً وتراثاً. . وأرى أجواء جديدة تحمل الضباب وبشائر غير سارة. أظنّ وكما كنت تردد " بعد الهدوء يحدث الانفجار" دبّت الحماسة فيه. تناول منظاره وجّهه كمدفع إلى جسر الموت، كأنه يرسل من قلبه موجات الوداع. يعتقد أن أملاً مهاجراً إلى مكان مجهول، احتضنته الأوجاع والأقبية الرطبة. قطع حيّان سُرّة حلم فانفلتت، وسالت دماؤه. حلم تحجرّ في ذاكرته.. اثنان يودعان مكانين وقلبين وروحين. لم يبق إلاَّ هذا العناق البعيد بين منظارين وعيون. وحزن يرافق عائشة في طريق العودة إلى آخر ملجأ فيه بعض الأمل، فيه بقايا أنفاس دافئة. أرادت أن تكون صادقة في مواعيدها. أدارت ظهرها للنهر. بدأت تجرجر جسدها باتجاه بيروت الغربية. هزأ حراس بوابة المتحف منها ومن مشوارها وأفكارها وأحلامها، حطموا منظارها وكسّروا عكازتها، ومزّقوا بطاقتها الشخصية. رفسوا بأحذيتهم كل الأشياء الجميلة واستمروا يعضّون لحمها بأنيابهم، ويلحسون دماءها بألسنتهم، وكانوا يقولون لها: " لا تتعبي نفسك وتجهدي روحك. نحن باقون هنا رغماً عنك. سيظلّ قلبك مقسوماً فلقتين، واحدة للشرق، وواحدة للغرب. وفي خاصرتك غرسنا حربة، وقطعنا وردة، وسنشعل النيران في بقايا هشيم على أطرافك". سخرت منهم. أجابتهم بصلابة. غرست في حلوقهم أشواكاً. فانتفضوا في وجهها واستمرت في مواجهتهم قائلة:" سيأتي اليوم الذي تزول فيه جميع الدُشم والستور الرملية وحواجز الأتربة وتفتح بوابة العبور بين قسمي بيروت، وتندلق مياه البحر على وجوهكم، ويعبر الهواء من الشرق إلى الغرب وبالعكس، يحملكم كنفايات ويلقيكم في جوف الصحراء". وفيما كانت تدخل غرفتها في المشفى. تنتظر الممرضة عودتها بلهفة وقلق، كان الحاجب يحمل أمراً جديداً يقفز فوق الدرجات مسرعاً. في هذه المرة تعالت ضحكاتنا، لأن ساعات الصباح الأولى، ستكون محمّلة بمشقّة الطريق الواصلة بين "جسر الباشا و " الفيّاضية" صعوداً فوق طريق الشام. . " بحمدون" و " صوفر". . إلى ضهر البيدر.. فرحة لا تُباع ولا تؤّجر، لكن بعض الحزن مازال يعشش، لأننا تركنا قلباً خسر عشرات النبضات. . تركنا جرحاً مفتوحاً للشمس والريح، يعود إلى الالتئام. . ورغم العتمة ظلّ الأمل يكبر ويكبر في قلوبنا... لن نتركها وحيدة، جريحة، مريضة. سيأتي اليوم الذي تتعافى فيه. وتعود صحتها إلى ما كانت عليه. ستمشي وتخلع قفازات الشاش. ستمشي على قدمين سليمتين، وتبدأ بوابة قلبها تشرّع مصراعيها لجميع اللبنانين والناس والأصدقاء والزوّار.بوابة مفتوحة على جهات العالم الأربع، تنثر الزهور والورود عطرها، زهور مغسولة بالروائح الطيّبة طاردة مناظر الموت والدمار والجنون.