لقد أورد ابن القيم رحمه الله تعالى و غفر له طرفا من تخبط المقلدين بأخذهم ببعض السنة و ترك يعضها الآخر ، فإليكم إخواني بعضا منها ، و هي مأخوذة من كتابه القيم : إعلام الموقعين عن رب العالمين .
خالف المقلدون أمر الله ورسوله وأئمتهم
إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم , وسلكوا ضد طريق أهل العلم , أما أمر الله فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله , والمقلدون قالوا : إنما نرده إلى من قلدناه ; وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين , وأمر أن يتمسك بها , ويعض عليها بالنواجذ , وقال المقلدون : بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه , ونقدمه على كل ما عداه , وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله , ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا , ولا يقبل من أقوالهم شيئا , وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث ; وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم .
وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين , فما وافق ذلك منهم قبلوه , ودانوا الله به , وقضوا به , وأفتوا به , وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه , وردوه , وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع , من غير أن يلزموا بها أحدا , ولا يقولوا : إنها الحق دون ما خالفها , هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا , وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق , وقلبوا أوضاع الدين , فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه , فعرضوها على أقوال من قلدوه , فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين , وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا : احتج الخصم بكذا وكذا , ولم يقبلوه , ولم يدينوا به .
واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن , وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها , حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم , وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها , وقالوا : لا ترد النصوص بمثل هذا , ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم .
ذم الله الذين فرقوا دينهم
إن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا { كل حزب بما لديهم فرحون } وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم , بخلاف أهل العلم ; فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا , بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق , وإيثاره عند ظهوره , وتقديمه على كل ما سواه , فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم ; فالطريق واحد , والقصد واحد , والمقلدون بالعكس : مقاصدهم شتى , وطرقهم مختلفة , فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق .
ذم الله الذين تقطعوا أمرهم زبرا
أن الله سبحانه ذم الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون , والزبر : الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله , فقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم : أن يأكلوا من الطيبات , وأن يعملوا صالحا , وأن يعبدوه وحده , وأن يطيعوا أمره وحده , وأن لا يتفرقوا في الدين ; فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك , ممتثلين لأمر الله , قابلين لرحمته , حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب مما لديهم فرحون , فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال , وعلم من أي الحزبين هو , والله المستعان .
قال الله تعالى: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم , والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله , لا الداعون إلى رأي فلان وفلان .
ذم الله من أعرض عن التحاكم إليه
إن الله سبحانه و تعالى ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره , وهذا شأن أهل التقليد , قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم ; فمستكثر ومستقل .
الحق في واحد من الأقوال
يقال لفرقة التقليد : " دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده , فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا , ويبطل بعضها بعضا , كلها دين الله " ؟ فإن قالوا : " بلى , هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله " خرجوا عن نصوص أئمتهم ; فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال , كما أن القبلة في جهة من الجهات , وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح , وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال .
وإن قالوا : " الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد , وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده , كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة , فمن وافقه فهو المصيب وله أجران , ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه " .
قيل لهم : فالواجب إذا طلب الحق , وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان ; لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة .
وتقواه : فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ; فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه . ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق , فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر , ويلقى الله ولما يقض ما أمره .
دعوة رسول الله عامة
إن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة , والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه , وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال .
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم , بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله , ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا , وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به , وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة .
ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته , ولا هو مختص بالصحابة ; فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله .
هذا ما تيسر لي وضعه بين أيديكم ، مراعاة لعدم الإطالة ، و نفعنا الله و إياكم بكل خير