بسم الله الرحمن الرحيم
هناك في تاريخ الشعوب، القديم والحديث، وقائع يمحوها الزمن بسرعة غريبة، ووقائع أخرى كلما مر الزمن عليها بأحداثه ازدادت رسوخا ووضوحا وثباتا ولا سيما إذا صادفت عقلا ذكيا، وقلبا خفاقا، ونفسا حيوية، فإنها تنطبع بالاستمرار والخلود، يرددها السابقون، ويجددها اللاحقون، لتكون رابطة متينة بين الأجيال المتعاقبة التي تضيف بأعمالها إلى ما ترثه من انجازات. من هذه الوقائع المستمرة والخالدة في تاريخنا الجزائري أحداث مجازر الثامن ماي "1945" المصادف ليوم الخميس والتي تزداد إشراقا وعمقا في وجداننا كلما تعاقبت عليها السنون.
تتجدد علينا ذكرى تلك المجازر الدامية التي تحملها الشعب الجزائري بشجاعة وصبر، ونتذكرها بالحديث، ونستعرضها للعبرة والموعظة والوفاء والتقدير، فكيف جاءت تلك الأحداث؟ للإجابة نعيد إلى الذاكرة أن فرنسا دخلت الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من سنة 1939م ، ولما كانت تعلم عداوة الشعب الجزائري لها بسبب احتلال وطنه، وحرمانه من ثرواته وحقوقه، وتعلم أيضا مطالب الحركة الوطنية في الحرية والاستقلال، لذلك فرضت على الجزائريين مراقبة شديدة، وزجت ببعض قادة الأحزاب والتنظيمات في السجون بدعوى أنهم يطالبون بالاستقلال، إلى جانب أنهم يخصون الشباب الجزائري على العصيان ورفض التجنيد، لأن فرنسا يومئذ أقبلت على تجنيد هؤلاء الشباب، ودفعهم إلى الصفوف الأمامية في معارك القتال المشتعلة، حسب قانون التجنيد الإجباري الصادر في "1912م"، وفي نفس الوقت راحت فرنسا تنهب الثروات الطبيعية، وتسخر كافة الموارد لدعم مجهودها الحربي، مما تسبب في انتشار الفقر والمرض والمجاعة والتسول. ولقد أدركت فرنسا مدى عمق عداوة قادة الحركة الوطنية لها، فراحت تعد الجزائريين في بيانات متلاحقة بأنهم إن حاربوا معها بإخلاص، ووقفوا بجانبها حتى تنتصر، فإنها تمنح لهم حريتهم واستقلالهم، واطمأن بعض الجزائريين إلى الوعد الكاذب، وشك في صدقه آخرون، وتواصلت الحرب بضحاياها وآلامها حتى النهاية التي جاءت لغلبة الحلفاء وبينهم فرنسا.
عند تلك النهاية خرج الجزائريون والجزائريات يوم الثامن ماي "1945" في مظاهرات، وقد حملوا العلم الوطني، وهتفوا بحياة الجزائر حرة مستقلة، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، كما طالبوا بتحقيق الوعد الذي قطعته فرنسا على نفسها مع الشعب الجزائري وهو منحه الحرية والاستقلال، لكن ماذا وقع يومئذ؟
وقع أن واجهت قوات الاحتلال الفرنسي البغيض تلك الجماهير الغفيرة المتظاهرة في خرجة عارمة بنيران الأسلحة الفتاكة، وامتد القتل الجماعي إلى جميع أنحاء الوطن بقراه في وحشية غريبة، واشتد على الخصوص في مناطق قالمة وخراطة وسطيف وما يجاورها، وكانت النتيجة بين "45" و "100" ألف قتيل شهيد، بالإضافة إلى الجرحى والمعطوبين. وقد شارك في هذا القتل الوحشي الجيش والشرطة والجندرمة والمدنيين والمعمرين، ومما ارتكبوه من إجرام أنهم قطعوا الأيدي والأرجل والآذان وعلقوها في عرباتهم وجابوا بها مختلف المدن والقرى، وذلك لنشر الخوف والرعب، وتغطية فضيحة الهزيمة أمام ألمانيا قبل تدخل الحلفاء، وأعقبت هذه الأعمال بـحملة لسجن الوطنيين من قادة الحركة الوطنية ونفي بعضهم خارج الجزائر، وتشديد المضايقات بالغرامات ومصادرة الأراضي الخصبة، فما هي النتيجة لهذه المجازر المرعبة؟
إنه من نتائج هذه الأحداث الفظيعة والمجازر المرعبة التي تناقلها الجزائريون عبر الوطن، مثلما تناقلوا أخبار الحرب المنتهية، وقد اتضح لهم جليا أن الطريق إلى الحرية والاستقلال يستدعي تحضيرات جدية، ويستدعي أيضا تخطيطا صارما وإدارة فلاذية، وإقبالا عنيفا على التضحية، بالأموال والأنفس، وبفضل هذا الانتباه والفهم والتقدير والنظر إلى القريب والبعيد من شؤون الكفاح، جاء الإعداد الصحيح لثورة نوفمبر "1954" المنتصرة إلى الأبد التي قادت التضحيات إلى هدفها، وغرست شجيرات الحرية والانعتاق، ووضعت حدا نهائيا للاحتلال الأجنبي الغاشم.
إن التذكير بتلك المجازر الوحشية اليوم للعبرة والموعظة، ومقاومة النسيان.
وتعد تضحيات الثامن ماي 1945م، والتي لا تنسى جزءا من جهاد الشعب الجزائري الذي لم يتوقف طوال مدة الاحتلال. فما تكاد ثورة تنهزم في منطقة من الجزائر، حتى تنبعث ثورة أخرى في موضع آخر من الوطن، ولعل الموقع الجغرافي والاستراتيجي وشساعة المساحة، وكثرة الثروات المختلفة، عوامل فرضت على الجزائريين الجهاد المتواصل، وعليهم أن يتمثلوا قوله تعالى
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). وتلك المجازر والأعمال الوحشية نتذكرها ونذكر بها المجتمع ليزداد تماسكا وتضامنا ومناعة، ويأخذ منها العبرة، فلا يمنح الأعداء فرص ليعبثوا ويمزقوا وحدته، أو يجرونه إلى التناحر والتباغض والانشغال بما لا ينفع .
اللهم ارحم شهداءنا واغفر لهم ولنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.